עמוד:187
كنا ثمانية ، فقط ، في سفينة صغيرة ، ومعنا أبو راشد ( النوخذة ) 1 وكنت أنا واحدا منهم ، كنا نحن البحارة والغواصين ، وكان معنا صالح ، وهو صبي فقد أمه يوم فتح عينيه على الحياة ، وكان أبوه صديقا لأبي راشد ، فأراد له أن يتدرب على حياة الغوص ، وشاء الله تعالى أن يصطحبه في هذه الرحلة بعد إلحاح منه ورجاء من أبيه ، لم يملك الرجل الطيب معهما أن يرده ، وكنا نتهيأ للعودة بعد أن آذن موسم الغوص على الانتهاء ، وفي عصر يوم يا بني ... تجاوبت مع نسماته الصافية ألحان العودة من السفن القريبة ، تنقل الفرحة بين صدور العائدين إلى الأرض الحبيبة ، وحين قاربت الشمس أن تغيب ، رأى الناس عارضا قادما من بعيد ، فظنوه نذير عاصفة . وتنادى " النواخذة " في السفن للاستعداد وأخذ الحذر ، وتهيأ الجميع لمواجهتها ، ولجأت السفن إلى مكان ضحل المياه تحتمي به ، ولم يكذب حدسهم ، 2 وما هي إلا لحظات حتى انقلب هدوء البحر ثورة والنسمات الرقيقة عاصفة ، واستحال صفاء الحياة سوادا حالكا ، ابتلع بقايا النور وتلاحقت الأمواج تلطم السفينة الصغيرة ، وتصفع الوجوه ، وتطيح بالشراع ، وصاح أبو راشد بالجماعة يحثهم على الصمود والثبات وبذل الجهد لمقاومة العاصفة ، فقبضنا على الدلاء نغرف من بطن السفينة ما اندفع إليها من الماء ، والقلوب تخفق بالدعاء أن يسكن الله العاصفة ، وينجينا من هذا البلاء ، وما إن تهدأ العاصفة ، فنأخذ أنفاسنا ، ونمني أنفسنا بالأمل حتى تعود أشد قسوة وضراوة . وقضينا الليل في صراع مع الهلاك ، وماذا يفعل البشر مع أمر لا حول لهم فيه ولا قوة ؟ وماذا تجدي الدلاء القليلة في طغيان البحر ؟ ومع أن اليأس كان يزحف إلى نفوسنا ، كان أبو راشد يهون الخطب ، ويقف عملاقا تحت السارية يتلقف الدلاء المملوءة ويفرغها في البحر ، وبجواره الصبي يحاكي صنيعه ، ويعاونه في مهمته في صبر واقتدار ، ورأيتك يا بني وسط العاصفة ، وأنت لم تتعهد بعد شهرك السابع ، ويداك ممتدتان ، وتندفع ناهضا إلي ، كأنك تريد أن تقتلع نفسك من صدر أمك ، لتقذف بها إلي ، وابتسامتك العذبة تملأ وجودي كله ، فيشتد ساعدي ، وتتصاعد الدلاء بين ذراعي فياضة مترعة ، فتهدأ العاصفة ويتجدد الأمل ، وحين تعود إلى سطوتها ، وتنتابني أمواج الخوف ورهبة النهاية ، وأنا أتذك ّر أن هذه العاصفة لا تنتهي بعد ليلة ، ولكن مداها ثلاثة أيام ... هكذا قالوا !! وانتهى الليل الطويل ، حين لاح نور الصبح ، وما زال النذير قائما في الأفق ، فرفعت السفينة علامات الإقلاع وتهيأ الناس لينسلوا بسفنهم من وجه العاصفة ، فربما رأوا أن عرض البحر أهون من هذه الجنادل ، 3 أو لعلهم تأك ّدوا من استمرار العاصفة أياما أخر ، فآثروا الرحيل ، ونظرنا إلى أبي راشد كأننا نستحثه على أن يقرر شيئا ، وفهم الرجل قصدنا . . 1 مصطلح خليجي قديم يطلق على صاحب سفينة الصيد والتجارة وقبطانها . . 2 الظن والتخمين والتوهم في معاني الكلام والأمور . . 3 الحجارة ، الصخور .
|