עמוד:15

لم أجد ما أقوله للرجل ، فأنا ما زلت أجهل حقا من يكون ، ومن هم أهله ، وما علاقتي بالأمر كله . قلت له : " وكيف حالك ؟" نحن في أحسن حال ، وكما ترى ، فإنه لا وقت لدينا حتى لنسأل أنفسنا مثل هذا السؤال . ثم واصل حديثه : يبدو أنك لم تتذك ّرني حتى الآن ، هل نسيت صالح الورداني ؟ وفجأة لمع الاسم في ذاكرتي كأنه البرق ، إنه صالح أحمد الورداني ، يا لله كيف تخونني الذاكرة إلى هذا الحد ؟ وكيف غاب الرجل عن ذهني كل هذه المدة ؟ لم أتمالك نفسي من إعلان الدهشة ، فقد اعترفت ملامح وجهي بذلك ، ولكنني خجلت من الاعتراف للرجل بأنني أتذكره الآن لأول مرة . كان ذلك في مدينة القدس قبل سنوات طويلة خلت ، كنت يومها معلما في المدرسة الرشيدية ، وكان صالح أحمد الورداني واحدا من تلاميذي النجباء ، كان فقيرا ولكنه مجتهد ، وكان في الصف الثاني ثانوي العلمي ، لم يكن الأول في صفه ، لم يكن هناك ما يستدعي التعرف على ولي أمره ، أما صالح فقد جاء والده ذات مرة ليعتذر عن تغيبه قائلا : " إن صالحا مريض ، وأرجو أن تعفيه من الدوام هذا اليوم ... " ولكن غيابه تكرر كثيرا في ما بعد . رأيت أبا صالح مرة أخرى بمحض المصادفة ، كان ذلك في عمان بعد ثلاثة أعوام من سفري إلى دمشق للتدريس هناك ، وجدت الرجل هناك في انتظار " السرفيس " ، كان يبدو وكأنه شاخ فجأة ، وأن السنوات الثلاث التي مرت على رؤيتي له في المرة الأولى ، تبدو وكأنها عشر سنوات . بادرني الرجل بالتحية ، وبادرته بالسؤال عن صالح ، فأعرض عني مليا ، واكفهرت ملامحه ، وبدا كأنه يكابد موجة عارمة من الحزن والانقباض . قال وهو يكاد يبكي : لقد فارق صالح الحياة ، ألم تعلم بأن صالحا هده مرض عضال ؟ ... واجتاحت الرجل ارتعاشة مفاجئة ، واختنق صوته بالنشيج ، وكأنه يروي قصة وفاته لأول مرة ، وطوال الطريق ظل الرجل يروي لي تفاصيل مأساته وكيف كان يتنقل به من مستشفى لآخر لعلاجه ، ولكن دون جدوى . قلت له : ارجو المعذرة يا أبا صالح ، فالأيام لم تترك لنا شيئا نتذكره ، إنه الرك ْض الدائم وراء لقمة العيش ، حتى المستقبل أصبح بالنسبة لنا هما وكابوسا دائما . تطلع إلي أبو صالح ، ثم ابتسم وقال : " قد لا تصدق أن عائلتي التي ما زالت تعيش في عمان لا تشغل بالي أك ْثر من لحظات عابرة كل شهر ، حين أبحث عن أحد المسافرين إلى عمان لأرسل لهم بعض النقود " . فقلت له : " ولهذا جئت تبحث عني يا أبا صالح " . " نعم ، وقد عرفت أنك هنا بمحض المصادفة ، وأرجو ألا يضايقك ذلك " . " بالعكس ، يسعدني جدا أن أقدم لك الخدمة التي تريدها " . وحين نهض ليغادر الفندق ، شد على يدي بحرارة ، وقال : " لا وقت للأحزان ، علينا أن نفكر بالحاضر والمستقبل ، فالحياة يجب أن تستمر " . وبسرعة عجيبة كان الرجل ينطلق بعيدا ، وأنا ما أزال أغرق في الذهول ، أرنو إلى خطواته الواثقة ، وأنا أتفكر في كلماته " الحياة يجب أن تستمر " . خليل السواحري ) بتصرف (

מטח : המרכז לטכנולוגיה חינוכית


לצפייה מיטבית ורציפה בכותר